سورة الحجر - تفسير تفسير ابن الجوزي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


قوله تعالى: {كما أنزلنا على المقتسمين} في هذه الكاف قولان:
أحدهما: أنها متعلِّقة بقوله: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني}. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن المعنى: ولقد آتيناك سبعاً من المثاني، كما أنزلنا الكتب على المقتسمين، قاله مقاتل. والثاني: أن المعنى: ولقد شرَّفناك وكرَّمناك بالسبع المثاني، كما شرَّفناك وأكرمناك بالذي أنزلناه على المقتسمين من العذاب، والكافُ بمعنى مِثْلٍ وما بمعنى الذي ذكره ابن الأنباري.
والثاني: أنها متعلقة بقوله: {إِني أنا النذير}، والمعنى: إِني أنا النذير، أنذرتكم مثلَ الذي أُنزل على المقتسمين من العذاب، وهذا معنى قول الفراء. فخرج في معنى {أنزلنا} قولان:
أحدهما: أنزلنا الكتب، على قول مقاتل.
والثاني: العذابَ، على قول الفراء.
وفي {المقتسمين} ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم اليهود والنصارى، رواه العَوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد. فعلى هذا، في تسميتهم بالمقتسمين ثلاثة أقوال. أحدها: أنهم آمنوا ببعض القرآن، وكفروا ببعضه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهم اقتسموا القرآن، فقال بعضهم: هذه السورة لي، وقال آخر: هذه السورة لي، استهزاءً به، قاله عكرمة. والثالث: أنهم اقتسموا كتبهم، فآمن بعضهم ببعضها وكفر ببعضها، وآمن آخرون بما كفر به غيرهم، قاله مجاهد.
والثاني: أنهم مشركو قريش، قاله قتادة، وابن السائب. فعلى هذا، في تسميتهم بالمقتسمين قولان. أحدهما: أن أقوالهم تقسَّمت في القرآن، فقال بعضهم: إِنه سحر، وزعم بعضهم أنه كهانة، وزعم بعضهم أنه أساطير الأولين، منهم الأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، وعدي بن قيس السهمي، والعاص ابن وائل، قاله قتادة. والثاني: أنهم اقتسموا على عِقاب مكة، قال ابن السائب: هم رهط من أهل مكة اقتسموا على عِقاب مكة حين حضر الموسم، قال لهم الوليد ابن المغيرة: انطلقوا فتفرَّقوا على عِقاب مكة حيث يمرُّ بكم أهل الموسم، فاذا سألوكم عنه، يعني: رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فليقل بعضكم: كاهن، وبعضكم: ساحر، وبعضكم: شاعر، وبعضكم: غاوٍ، فإذا انتهَوْا إِلَّي صدَّقتُكم، ومنهم حنظلة ابن أبي سفيان، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاص ابن هشام، وابو قيس بن الوليد، وقيس بن الفاكه، وزهير بن أبي أمية، وهلال ابن عبد الأسود، والسائب بن صيفي، والنضر بن الحارث، وأبو البَخْتري بن هشام، وزمعة بن الحجاج، وأُمية بن خلف، وأوس بن المغيرة.
والثالث: أنهم قوم صالح الذين تقاسموا بالله: {لنُبيِّتَنَّه وأهلَه} [النمل 49]، فكفاه الله شرهم، قاله عبد الرحمن بن زيد. فعلى هذا، هو من القَسَم، لا من القِسمة.
قوله تعالى: {الذين جعلوا القرآن عِضين} في المراد بالقرآن قولان:
أحدهما: أنه كتابنا، وهو الأظهر، وعليه الجمهور. والثاني: أن المراد به: كتب المتقدمين قبلنا.
وفي {عضين} قولان:
أحدهما: أنه مأخوذ من الأعضاء. قال الكسائي، وأبو عبيدة: اقتسموا بالقرآن وجعلوه أعضاءً. ثم في ما فعلوا فيه قولان:
أحدهما: أنهم عضَّوه أعضاءً، فآمنوا ببعضه، وكفروا ببعضه. والمعضي: المفرِّق. والتعضية: تجزئة الذبيحة أعضاءً. قال علي عليه السلام: لا تَعْضِيَةَ في ميراث، أراد: تفريق ما يوجب تفريقه ضرراً على الورثة كالسيف ونحوه. وقال رؤبة:
وليسَ دَيْنُ الله بالمُعَضَّى *** وهذا المعنى في رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أنهم عضَّوْا القول فيه، أي: فرَّقوا، فقالوا: شعر، وقالوا: سحر، وقالوا: كهانة، وقالوا: أساطير الأولين، وهذا المعنى في رواية ابن جريج عن مجاهد، وبه قال قتادة، وابن زيد.
والثاني: أنه مأخوذ من العَضَهِ، والعَضَهُ، بلسان قريش: السِّحر، ويقولون للساحرة: عاضهة، وفي الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن العاضهة والمستعضهة، فيكون المعنى: جعلوه سِحراً، وهذا المعنى في رواية عكرمة عن ابن عباس، وبه قال عكرمة، والفراء.
قوله تعالى: {فوربك لنسألنَّهم أجميعن عما كانوا يعملون} هذا سؤال توبيخ، يُسأَلون عما عملوا في ما أُمروا به من التوحيد والإِيمان، فيقال لهم: لم عصيتهم وتركتم الإِيمان؟ فتظهر فضيحتهم عند تعذّر الجواب. قال أبو العالية: يُسأَل العبادُ كلُّهم يوم القيامة عن خَلَّتين: عما كانوا يعبدون، وعما أجابوا المرسَلين.
فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين قوله: {فيومئذ لا يُسأَل عن ذنبه إِنس ولا جانّ} [الرحمن: 39] فعنه جوابان:
أحدهما: أنه لا يسألهم: هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم، وإِنما يقول: لم عملتم كذا؟ رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: أنهم يُسأَلون في بعض مواطن القيامة، ولا يُسأَلون في بعضها، رواه عكرمة عن ابن عباس.


قوله تعالى: {فاصدع بما تؤمر} فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: فامض لما تؤمر، قاله ابن عباس.
والثاني: أَظْهِر أمرك، رواه ليث عن مجاهد. قال ابن قتيبة: {فاصدع بما تؤمر} أي: أَظْهِر ذلك. وأصله: الفَرْق والفتح، يريد: اصدع الباطلَ بحقك. وقال الزجاج: اظهَر بما تؤمر به، أُخذ ذلك من الصديع، وهو الصبح، قال الشاعر:
كأنَّ بياضَ غُرَّتِه صَديع ***
وقال الفراء: إِنما لم يقل: بما تؤمر به، لأنه أراد: فاصدع بالأمر. وذكر ابن الأنباري أن به مضمرة، كما تقول: مررت بالذي مررت.
والثالث: أن المراد به، الجهر بالقرآن في الصلاة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال موسى بن عبيدة: ما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية، فخرج هو وأصحابه.
وفي قوله: {وأعرض عن المشركين} ثلاثة أقوال:
أحدها: اكفف عن حربهم.
والثاني: لا تبالِ بهم، ولا تلتفت إِلى لومهم على إِظهار أمرك.
والثالث: أعرضْ عن الاهتمام باستهزائهم. وأكثر المفسرين على أن هذا القدْر من الآية منسوخ بآية السيف.


قوله تعالى: {إِنا كفيناك المستهزئين} المعنى: فاصدع بأمري كما كفيتك المستهزئين، وهم قوم كانوا يستهزئون به وبالقرآن. وفي عددهم قولان:
أحدهما: أنهم كانوا خمسة: الوليد بن المغيرة، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس، قاله ابن عباس. واسم أبي زمعة: الأسود بن المطلب. وكذلك ذكرهم سعيد بن جبير، إِلا أنه قال مكان الحارث بن قيس: الحارث بن غيطلة، قال الزهري: غيطلة أمه، وقيس أبوه، فهو واحد. وإِنما ذكرتُ ذلك، لئلا يُظَن أنه غيره. وقد ذكرتُ في كتاب التلقيح من يُنْسَب إِلى أمه من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وسميت آباءهم ليُعرَفوا إِلى أي الأبوين نُسبوا. وفي رواية عن ابن عباس مكان الحارث ابن قيس: عدي بن قيس.
والثاني: أنهم كانوا سبعة، قاله الشعبي، وابن أبي بزة، وعدَّهم ابن أبي بَزَّة، فقال: العاص بن وائل، والوليد بن المغيرة، والحارث بن عدي، والأسود ابن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، وأصرم وبعكك ابنا عبد الحارث بن السبّاق.
وكذلك عدَّهم مقاتل، إِلا أنه قال مكان الحارث بن عدي: الحارث بن قيس السهميّ، وقال: أصرم وبعكك ابنا الحجاج بن السبَّاق.
ذِكر ما أهلكهم الله به وكفى رسولَه صلى الله عليه وسلم أمرهم.
قال المفسرون: أتى جبريلُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والمستهزئون يطوفون بالبيت، فمر الوليد بن المغيرة، فقال جبريل: يا محمد، كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله» قال: قد كفيت، وأومأ إِلى ساق الوليد، فمر الوليد برجُل يَريش نبلاً له، فتعلقت شظية من نبل بإزاره، فمنعه الكِبْرُ أن يطامن لينزعها، وجعلت تضرب ساقه، فمرض ومات. وقيل: تعلَّق سهم بثوبه فأصاب أكحله فقطعه، فمات. ومر العاص بن وائل، فقال جبريل: كيف تجد هذا يا محمد؟ فقال: «بئس عبد الله» فأشار إِلى أخمص رجله، وقال: قد كُفيتَ، فدخلت شوكة في أخمصه، فانتفخت رجله ومات. ومر الأسود بن المطلب، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبد سوء»، فأشار بيده إِلى عينيه، فعمي وهلك. وقيل: جعل ينطح برأسه الشجر ويضرب وجهه بالشوك، فاستغاث بغلامه، فقال: لا أرى أحداً يصنع بك هذا غير نفسك، فمات وهو يقول: قتلني ربُّ محمد. ومر الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل: كيف تجد هذا؟ فقال: «بئس عبد الله»، فقال: قد كُفيت، وأشار إِلى بطنه، فسَقَى بطنُه، فمات. وقيل: أصاب عينه شوك، فسالت حدقتاه. وقيل: خرج عن أهله فأصابه السَّموم، فاسودَّ حتى عاد حبشياً، فلما أتى أهله لم يعرفوه، فأغلقوا دونه الأبواب حتى مات. ومر به الحارث بن قيس، فقال: كيف تجد هذا؟ قال: «عبدَ سوء» فأومأ إِلى رأسه، وقال: قد كُفيت، فانتفخ رأسه فمات، وقيل: أصابه العطش، فلم يزل يشرب الماء حتى انقدَّ بطنُه.
وأما أصرم وبعكك، فقال مقاتل: أخذتْ أحدَهما الدُّبَيْلَةُ والآخرَ ذاتُ الجَنْبِ، فماتا جميعاً. قال عكرمة: هلك المستهزئون قبل بدر. وقال ابن السائب: أُهلكوا جميعاً في يوم وليلة.
قوله تعالى: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون} فيه قولان:
أحدهما: أنه التكذيب. والثاني: الاستهزاء.
قوله تعالى: {فسبِّح بحمد ربك} فيه قولان:
أحدهما: قل سبحان الله وبحمده، قاله الضحاك. والثاني: فصل: بأمر ربك، قاله مقاتل.
وفي قوله: {وكن من الساجدين} قولان:
أحدهما: من المصلِّين. والثاني: من المتواضعين، رويا عن ابن عباس.
قوله تعالى: {حتى يأتيَك اليقين} فيه قولان:
أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس، ومجاهد، والجمهور، وسمي يقيناً، لأنه موقَن به. وقال الزجاج: معنى الآية: اعبد ربك أبداً، ولو قيل: اعبد ربك، بغير توقيت، لجاز إِذا عبد الإِنسان مرة أن يكون مطيعاً، فلما قال: {حتى يأتيَك اليقين} أُمر بالإِقامة على العبادة ما دام حيَّاً. والثاني: أنه الحق الذي لا ريب فيه مِنْ نصرك على أعدائك، حكاه الماوردي.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10